إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا
أخبار الآحاد
49647 مشاهدة
القول الثاني العقل يوجب العمل بخبر الواحد

القول الثاني : أن العقل يوجب العمل بخبر الواحد
     وهذا قول ابن سريج والقفال من الأشاعرة، وأبي الحسين البصري من المعتزلة وغيرهم، وحكي عن الإمام أحمد وقاله أبو الخطاب .
     واستدلوا لذلك بما يأتي :
1- أن في ترك العمل به تعطيل لأكثر الوقائع عن الدليل، لقلة الأدلة المقطوع بها بالنسبة للحوادث، وحكمة الله تقتضي أن كل حادثة تكون معروفة الحكم بدليل يجب قبوله، وأكثر الوقائع إنما أدلتها آحاد، فيجب قبولها.
2- أنه من المعلوم عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وليس في إمكانه مشافهة الجميع، ولا أن يبعث إلى كل جهة عددا يبلغون حد التواتر، فلم يبق إلا الاكتفاء بالآحاد، فلو لم يجب على الأمة العلم بأخبارهم لم يحصل التبليغ، ولم يكن لبعثهم فائدة.
3- أن ظن صدق الراوي يرجح وجود الحكم الذي يترتب على تركه العقاب، والعاقل يحتاط بامتثال هذا الأمر، ليسلم من هذا العقاب ولو مظنونا .
     وأيضا لما كان العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معلوما من الدين بالضرورة في الجملة، وكانت هذه الأخبار قد جاءت تفصيلا لتلك الجملة، لما في فعله مصلحة، وفي تركه مضرة، كانت مما تثير الخوف في القلب، فوجب العمل بمفادها عند ترجح صدقها، تحصنا وتحرزا ، من المخاوف، هذا ملخص حججهم، وهي كما ترى في وجاهتها .
وقد تكلف الآمدي وغيره ردها بأجوبة جدلية، نشير إلى ملخصها مع مناقشتها:
     قالوا: أما الحجة الأولى فإنه لا يلزم من ترك خبر الواحد تعطل الوقائع عن الأحكام، فإن المفتي إذا لم يجد دليلا انتقل إلى حكم شرعي، وهو البراءة الأصلية كما لو لم يجد خبر الواحد.
     فيقال : نحن لا نشك في أن النصوص الشرعية قد بينت تفاصيل الأحكام ، وتعرضت لكل واقعة يمكن أن تقع ، وهو مقتضى كمال الدين، وإذا لم يوجد في الواقعة الجزئية نص خاص ، وجدت قواعد كلية تعم أفرادا كثيرة من جزئيات المسائل.
     ففي رد أخبار الآحاد إبطال لكليات وقواعد شرعية من جوامع الكلم الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ردها تعطيل وقائع كثيرة، يكون بيانها من موجب الرسالة، على أن البراءة الأصلية إذا كانت قبل ورود التكاليف ، أما بعده فقد أصبحت الذمة مشغولة بالأحكام، فتكون البراءة أيضا مظنونة بالنسبة إلى هذا الحكم، وتتقابل مظنونة بمظنونة، فيعمل بالأرجح.
     قالوا : وأما الحجة الثانية: فإن التبليغ إنما يجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يقدر عليه بالمشافهة أو بخبر التواتر، فمن بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قامت عليه الحجة، وإلا فهو معذور، كالبعيد الذي لم يتمكن من تبليغه ولو بالآحاد.
     فيقال : هذا ليس بوجيه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - مكلف بالدعوة والإنذار بما في استطاعته، كما حصل من اقتصاره على بث الدعاة في أقطار البلاد، واكتفائه بذلك، مما يدل على أنه مما قامت به الحجة وإن كان مظنونا ظنا غالبا . أما من لم يقدر على تبليغه كمن في الجزائر النائية فهذا يعذر حتى تبلغه الدعوة، وقد زال العذر بدعوة الصحابة ومن بعدهم، وتبليغهم جميع الشريعة إلى القاصي والداني.
     قالوا: وأما الحجة الثالثة : فإن ظن صدق الراوي إنما يرجح كون العمل بخبره أولى، من غير إيجاب، كما في خبر الكافر والفاسق عند ترجح صدقه، من عدم وجوب العمل به إجماعا . قالوا: وهذا استعمال لقياس ظني في أصل من الأصول التي لا بد أن تكون أدلتها يقينية قطعية.
     فيقال : إذا عرف العاقل أن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم تسبب الضرر عليه، وأن امتثال أمره مما يحصل له المصلحة، وجاءه أمر تترجح صحته، فعدم امتثاله والحالة هذه مما يلحقه به اللوم، وبتكرر ذلك لا بد أن يحصل عليه ضرر، فالعقل السليم يوجب الحذر من أسباب الضرر.
     ومثال ذلك: ما إذا علم العاقل تحريم قتل نفسه، وظن ظنا غالبا أن هذا الطعام مسموم، حرم عليه أكله، أو ظن أن هذا الجدار يريد أن ينقض لم يجز له الجلوس تحته.
     وكثيرا ما يجعل الفقهاء الاحتياط مناطا للوجوب. أما قياسه على خبر الكافر والفاسق فغير مسلم، لأنه لا يوثق بخبرهما بمجرده، فإن اقترن به قرائن تغلب صدقه وجب العمل به اعتمادا على القرائن.
     أما قولهم إن أدلة الأصول لا تكون ظنية، فغير مسلم، وقد نقضوه بأنفسهم، فكثيرا ما يثبتون قواعد وأحكاما وأصولا بأدلة ظنية أو خيالية.